متى تبدء الحياة الاِنسانية..؟
السؤال المقصود بالاِجابة هنا هو أنّه متى تبدء الحياة الاِنسانية، وستعلم في الابحاث الآتية أنّ مطلق الحياة ثابتة في مني الرجل والمرأة وبعد التحامهما وصيرورتهما خلية، ثمّ إلى كتلة خلايا، ثمّ إلى حوصلة عالقة بالرحم، ثمّ منغرسة فيه والروح لم تنفخ بعد في جنين ميّت.
وإليك عدّة من الآراء في المقام:
(القول الاَوّل): المشهور في ألسنة المسلمين وأذهانهم أنّ الحياة الاِنسانية تبدء بنفخ الروح في الجنين، والمشهور عند أهل النظر منهم أنّه بعد أربعة أشهر من الحمل.
** واعترضه بعض الاَطّباء الماهرين المتدينين بأنّ علم الطب لا يرى لاستقبال الروح أثر، وقال: مسألة: إنّ الجنين آنذاك يكتسب الاِدراك أو الخيال أو تبدو عليه أمارات الرضاء والغضب، هي للاَسف الشديد من باب الفولكلور أو من باب التحمس لوجهة نظر معينة، ومحاولة تأييدها علمياً بغير سند علمي.
أقول: اعتراضه متين لكنه مقلوب عليه، فكما لا يصل الطبيب إلى أثر للروح بعد أربعة أشهر من الحمل كذا لا يصل إلى نفيه أيضاً، فلا يحق له انكاره أيضاً. والخلط بين حدود العلوم التجربية والفلسفة أو الدين أوجب
زلّة جماعات كثيرة من الماديين فضّلوا وأضّلوا، وتوضيح المقام محتاج إلى بسط في الكلام لكنه لا يناسب هذا الكتاب.
(القول الثاني): لحظة التحام الحيوان المنوي بالبويضة هي بداية الحياة الاِنسانية، اختاره بعض الاَطباء المشار إليه آنفاً، واستدلّ عليه بتحقّق كائن في هذا الدور تنطبق عليه جميع الشروط التالية:
1 ـ أنْ تكون له بداية واضحة معروفة.
2 ـ أنْ يكون قادراً على النمو ما لم يحرم أسبابه.
3 ـ أنْ يفضي نموه إلى الاِنسان جنيناً ووليداً وطفلاً وصبياً وشاباً وشيخاً وكهلاً إنْ نسأ الله له في الاَجل.
4 ـ أنّ ما سبقه من دور لا يمكن أنْ ينمو فيفضي إلى إنسان.
5 ـ أنْ تكتمل له الحصيلة الارثية لجنس الانسان عامة، وكذلك له هو فرداً بذاته مختلفاً عن غيره من الاَفراد منذ بدء الخليقة وحتّى قيام الساعة.
وقال: هذه الشروط الخمسة تتوفّر جميعاً في البويضة (البيضة) الملقّحة، وهي لا تتوفّر في غيرها ولا تنطبق على ما قبلها ولا ما بعدها.
واستشهد عليه أيضاً بتأجيل عقوبة الاعدام شرعاً إنْ كان المحكوم عليها حاملاً دون تقييد الحمل بزمان خاص، كما استشهد بقوله تعالى: ( وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ اُمَّهاتِكم)(1)، قال مَن هؤلاء الاَجنّة؟ أنتم وانا الانسان وأنكر أن تكون حياة الجنين قبل تمام أربعة أشهر نباتية أو حيوانية، فإنّ النبات ـ تعريفاً ـ ليس له جهاز حركي فعّال، ولا جهاز عصبي، وأُسلوبه الغذائي مختلف، وهو يقتأت على الضوء ويستهلك ثاني
أُوكسيد الكربون ويفرز الاوَكسجين.
وأحجم أنْ يصفها بأنّها حياة حيوانية، وقد يسعد جماعة داروين أنْ نقرر أنّ جنين الانسان بدور حيواني!!!.
أقول: الشرائط الخمسة لا تثبت أنّ حياة البييضة الملقّحة حياة انسانية لعدم الملازمة بينهما عرفاً وطباً وعقلاً وشرعاً، فهي ليست شروطاً للحياة الاِنسانية، حتّى تترتّب عليها ترتب المعلول على علّتها، وتأجيل اعدام الحامل إنّما هو لاَجل أنّ حملها في مصيره إلى الاِنسانية لا أنّه إنسان بالفعل حتّى في شهره الاَول، وهذا الاشتباه قد صدر من غير واحد من أعضاء الندوة كما يظهر من مطالعة الكتاب (أي كتاب بداية الحياة الانسانية ونهايتها) وغيرها، نعم حرمة الاِجهاض ولزوم تأخير إعدام الحامل وحكم الخروج عن العدّة وامثالها، أحكام شرعية تتّبع موضوعاتها ولا معنى للتلاعب بعناوينها.
والاستدلال بقوله تعالى: (وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ اُمَّهاتِكم) ضعيف، إذْ لا شك في أنْ المراد به: أنَّكم كنتم أجنّة. أو ما يؤدّي معناه ولا يراد به أنَّكم الآن أجنّة!! كما أنّ الاِنسان كان تراباً ولم يكن بإنسان.
على أنّ لازم هذا القول أنْ يكون نهايته الحياة الاِنسانية بموت خلاياه
لا بموت المخ كما ذهب إليه أطبّاء الاَعصار الاخيرة.
ثمّ المفهوم من الآية الخامسة في سورة الحجّ بطلان هذا القول، فإنّ مدلولها أنّ الاِنسان خُلِق ونشأ من النطفة والعلقة والمضغة، لا أنّه عينها. على هذا القائل اشكال آخر تعرض له ولم يقدر على حله ودفعه فلاحظ.
(القول الثالث): أنّ الحياة على أقسام:
1 ـ الحياة الخلية، وهي حياة البويضة المخصبة.
2 ـ الحياة النسيجية، وهي انقسام الخلية المتكررة وانغراسها في جدار الرحم واستمرار نموّها.
3 ـ الحياة الاِنسانية في الاِسبوع الثاني عشر من وقت تخصيب البويضة الذي أصبح فيه للجنين كيان أو وجود، فهو يقفز ويلعب وينام ويصحو ويحس ويفزّع، كلّ ذلك تزامناً مع اكتمال تكوين المخ وبداية قيامه بوظائفه من ظهور محركات التنفّس وإشارات المخ الكهربائية الدالّة على نشاط وعمل قشرة المخ والنصفين الكرويين، وهذه المرحلة تقف كعلامة هامة على طريق نمو وتطور الجنين، كما أنّ هذه العلامات والظواهر التي تحدث هي عكس العلامات التي توصف في مرحلة وفاة المخ عند موت الانسان. ومن هنا يمكننا أنْ نصفها بمرحلة ميلاد المخ أو بداية الحياة الاِنسانية.
وفي نهاية هذا الاسبوع يكون الجنين قد بلغ تسع سنتيمترات طولاً و45 جراماً وزناً. ومن السهل التعرّف على هذه المرحلة وتحديدها على وجه الدقة بالفحص بجهاز السونار لبيان الحركات التنفسية وانشطة الجنين المختلفة.
ويزيد هذا القائل: وفي أثناء الاسبوع الثاني عشر تظهر على الجنين خمسة مظاهر جديدة وهامة، كلّها تشير إلى اكتمال تكوين مخ الجنين وبداية ظهور الكيان الاِنساني في الجنين، ويبدو ذلك من:
1 ـ تتصور حركات الجنين حركات مركبة متوافقة، لا انقباضات تشنجية مثل ثني الظهر ورفع الرأس والالتفات بالوجه إلى الجانبين، وكذلك حركات مركبة للفم والشفتين واللسان والفكين شبه حركات الرضاعة.
2 ـ ظهور الحركات التنفسية. وليس المقصود هنا أنّ الجنين يتنفّس الهواء، فالرئتان لا تعملان في فترة الحمل، إلاّ أنّ هذه الحركات التنفسيّة تؤدي إلى التنفّس بعد الولادة.
3 ـ مرور الجنين في هذه المرحلة بفترات متتابعة ومنتظمة من النشاط والحركة، بعضها فترات روحة وسكون، وقد تكون فترات يقظة ونوم.
4 ـ بدء عمل ونشاط قشرة المخ كما سبق ذكره.
5 ـ بداية ظهور حركات بناء على تنبيهات من الخارج. وهذا يعني أنّ مراكز عليا في المخ قد تدخلت في حدوث هذه الحركة، وذلك بناءً على انفعالات حسية في مخ الجنين أدرك بها حدوث شيء غير مألوف، ويستنتج من هذا وجود الحس كذلك الوعي بالمحيط الذي يوجد فيه الجنين.
أقول: صحّ ما ذكره أولا فهو لا يدلّ على مدّعاه، لاَنّ الحس والحركة الاِرادية تجامعان الحياة الحيوانية وتنفيان الحياة النباتية فقط، ولا تتطلبان الحياة الانسانية بخصوصها حتّى يقال: إنّ مخه يدرك الكليات أو يحاول أنْ يثبت ملزوم إدراك الكليات وهو تعلق الروح الانسانية بالجنين، فهذا القائل لم يقدر على إثبات مدّعاه هذا إذا فرضنا وجود نفس حيوانية في الانسان، منحازة عن الروح الانسانية وكانت هي المصدر للحس والحركة الاِرادية، وأمّا إذا لم يكن الاَمر كذلك وان الحس والحركة الاِرادية وان كانا في الحيوانات مستندين الى النفس الحيوانية لكنهما في الانسان مستندان إلى النفس الناطقة الانسانية فقط، ولا روح حيوانية مستقلة في الانسان، فصحة هذا القول يثبت مدعى قائله لا محالة، فلا بدّ من بلوغ ما ادّعاه إلى درجة القطع، فإنّه بالفعل مشكوك.
والمظنون أنّ ما تقدّم من إيراد بعض الاَطباء على القول الاَوّل ناظر الى ادّعاء هذا القائل، حيث وصفه بأنّه من باب الفلكلور أو من باب التحمس لوجهة نظر معينة ومحاولة تأييدها علمياً بغير سند علمي.
(القول الرابع): أنّ بدء الحياة الانسانية ليس لحظة الالتحام بل وقت العلوق، إذ ليست كلّ بويضة (بييضة) ملقّحة هي لا بدّ أنْ تنغرس في الرحم، يمكن أن يتسبّب اللولب لتصريفها، لانّه لا تبدأ الحياة فعلاً إلاّ حين تصبح ملتصقة بالاُم وبالرحم، أي: إذا انغرست في الرحم، وهو ما عبّر عنه بعض الاَطباء بالاندغام، مأخوذاً من كلمة العلوق.
(القول الخامس): إنّه تستغرق رحلة الانسان من خلية واحدة إلى 16 خليّة في المعمل حوالي 4 ـ 5 أيام (ومن خلية إلى 6 بلايين خلية ـ فترة الحمل ـ حوالي 283 يوماً).
ولقد اصطلح طبياً (علمياً) على أنّ تسمّى مرحلة نمو الانسان داخل الرحم منذ أنْ تأخذ الخلية الملحقة في الاِنقسام إلى الثمانية (
أسابيع الاَُولى من الحياة بالجنين، ويسمّى الجنين في الفترة الباقية من الحمل بالمولود!
والسبب في هذه التسمية هو أنّ الجنين في مرحلة نموّه داخل الرحم يمرّ بمرحلتين هامّتين من التكوين:
الاَُولى والتي تمتد ثمانية أسابيع يكون الجنين فيها في حالة تكوين وتشكيل ونمو مضطرد في الخلايا.. والناظر اليه في تلك المرحلة يجد كتلة من الخلايا التجاويفية والقنوات.. (على شكل علقة ثم مضغة) ليس لها سمة الاِنسان السوي، وأهم ما يميّز هذه المرحلة من الناحية التشريحية هو ظهور (الميزاب العصبي) وهو بداية تكوين الجهاز العصبي (الحسّي) عند الجنين، وبعد هذه المرحلة يأخذ الجنين داخل الرحم مظهراً آخر في النمو، ويمكن للناظر إليه (أي بعد مرحلة الثمانية الاَسابيع الاَُولى) أنْ يميّز شكل إنسان آخذ في النمو... وقد وصف ذلك في آية الخلق والتطور داخل الرحم:...(ثُمَّ أنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقِين).
اذا يمكن القول بان الجنين هو انسان في الاَسابع 6 ـ 8 الاَولى في حياته داخل الرحم أو في انبوبة اختبار في محمل طفل الانابيب.
أقول: هذه الاَقوال الاَربّعة لعلماء الطب الذي هو في حال تطوّره وطريق تكامله، وقد عرفت أنها ضعيفة غير قابلة للاعتماد، وقبل الانتقال إلى القول الحق لا بدّ من بيان أمر هام يجب الالتفات إليه ومراعاته في كلّ باب، وهو أنّ ما ذكره أهل الطب وساير العلوم التجربية على أقسام:
منها ما ثبت بالحس والتجربة بحيث لا يقبل الترديد، وهذا مما لا شك في قبوله بحكم العقل والفطرة، فإنْ وجد في القرآن المجيد أو الاَحاديث المعتبرة ما يخالفه بظاهره وجب ردّ علم هذا الظاهر من الكتاب والسنة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا معنى للتعبد به على خلاف الحس كما بيّن ذلك في علم الكلام بأوضح برهان.
ومنها ما هو استنباطات وآراء ظنية من هؤلاء العلماء الاختصاصيين، ولا عبرة بها كما لا قيمة بآراء الفقهاء والاُصوليين والمجتهدين من علماء الدين، بل وآراء الصحابة العدول والسلف الصالح (رض) في مقابل الاَدلة الشرعية من ظواهر الكتاب والسنة، ولا يجوز لنا تقليدهم بحال، فإنّ قداسة أحدٍ، أمرٌ وتقليده أمرٌ آخرٍ ولا ملازمة بينهما.
ومنها ما هو مبني على الاحصائيات المحدودة محلاً ووقتاً، وهذا أيضاً لا اعتبار به، فليس كلّ ما ذكر أو بني عليه في العلوم أمراً حسياً وحقيقة واقعية يجب قبوله كما ربما يتخيّل من لا فهم له، كما أنه لا يجوز ردّ ما ثبت بطريق حسّي أو قطعي كالحس لاَجل فتوى سلف أو حديث ضعيف بل معتبر، فإنّ الاَحاديث كظواهر الكتاب ظنية، والظن يضمحل عند العلم بخلافه، اللّهم إلاّ عند من لا عقل له.
إذا تقرر هذا فاعلم أنّ البحث هنا عن عدّه أُمورٍ تناسب المقام على نحو الاختصار:
1 ـ أقسام الحياة وحقيقتها، ومعنى حياة الجنين في أدواره وأطواره.
2 ـ الفوارق الرئيسية بين الحيوان والانسان عند الفلاسفة.
3 ـ تركّب الانسان من البدن والنفس.
4 ـ الروح والنفس تتحّدان أو تتعدّدان.
5 ـ متى تبدء الحياة الاِنسانية.
فأقول مستعيناً بالله تعالى ومتوكّلاً عليه في أصابة الحق:
(البحث الاَوّل): من الخير والحقّ أنْ نعترف صريحاً بأنّه لا علم بحقيقة الحياة كما لا علم لنا بحقيقة منبعها وهو الروح، وانما نعرف الحياة بآثارها المذكورة في البيولوجيا، من التغذية والتنمية والتنفس وتوليد المثل والحس والحركة ونحوها.
ومن المشهور بل المحسوس أنّ الحياة ثلاثة أقسام: نباتية وحيوانية وإنسانية، فإنْ دلّ دليل عقلي أو علمي على انحصار الحياة بهذه الاَقسام فنقول: إنّ حياة الجنين ما لم يكن له حس وحركة إرادية حياة نباتية، وحينما وجد له الحس والحركة الارادية فحياته حيوانية، ولا محذور فيه، ولا تعلّق لهذا القول بقول داروين وأصحابه بوجه، ولا تتحقّق الحياة الانسانية دون تعلق الروح الانسانية به كما ستعرف.
وإنْ لم يدلّ دليل عليه فلا مانع من جعل حياة الخلايا المذكورة المسمّاة بالجنين قسماً رابعاً.
والاِنسان في سيره العلمي ربما يصل إلى أقسام اُخر من الحياة، وهذا هو الاَظهر، إذْ لنا أنْ نقول بأنّ حياته تعالى وحياة الملائكة نوعان آخران
المصدر : رافد