مدينة القدس من اقدم المدن الشرقية، بل هي عروسها المجلية، خطب ودها على مدى حقب التاريخ القديم الملوك العظام، والسلاطين الكبار، والقواد الطامحون، وتفيأ ظلال جدرانها واستنشق عبير هوائها وتمتع ببهي منظر دوحها وبساتينها الانبياء المخلصون، والعلماء المبدعون والصلحاء المتبتلون، وحاول كثيرون ترك آثار شاهدة فيها، وبناء معابد ومساجد ومصليات في جنباتها، حتى غدت مخزن الذكريات التاريخية لمختلف الحقب والملوك والدول والشعوب.
لكن المجد الغابر للقدس لم يكن السبب الوحيد والمحرك الفريد لاهتمامنا بها، بل لو لم يكن ذلك كله موجودا لكان لنا في الاحداث الحية والوقائع الحالية والظروف الواقعية والتخوفات المستقبلية على المدينة العظيمة (القدس) والاقليم المبارك (فلسطين) والمنطقة المجاورة (الدول العربية) والعالم المهتم (العالم الاسلامي) اكبر دافع ومحرك، ومهيج وسائق، وسبب ومبرر للكتابة التي تلفت الانظار الى الاخطار، وتكشف الدقائق من الحقائق، وتميط اللثام عما استتر من نوايا العدو والآثام، في ما يتعلق بالقدس الشريف ومسجدها المبارك وشعبها المسلم.
اننا جميعا – مسلمين وعرباً - مستهدفون، افرادا وجماعات، وحكومات ومؤسسات، وانظمة وشركات، للهجمة اليهودية الصهيونية المعاصرة، التي دعمها وقوى ساعدها وشد ازرها تعصب صليبي مسيحي، لم يكن في يوم من الايام متخفياً ولا مستتراً، ولا مجاملاً ولا متعذراً، فالمسلمون اليوم لا يواجهون اليهود وما في انفسهم من حقد قديم وثارات تاريخية ماضية فقط، بل انهم بكل صراحة وعلانية كذلك في مواجهة متعصبي النصارى الذين قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر، فكان منهم لليهود الغازين لبلادنا الدعم المالي والتأييد السياسي والمدد العسكري، وكانت منهم البيانات والتصريحات المساندة، والتهديدات والارعادات المتوعدة، والاعتدة والاسلحة المقاتلة، والتعهدات المتكررة.
ألا يحق بعد ذلك ان نكتب باستفاضة عن القدس؟!
ان اليهود منذ ان دخلت جحافلهم القسم الشرقي من بيت المقدس عام 1967 لم يتوقفوا لحظة واحدة عن العمل الدؤوب المتواصل لطمس المعالم التاريخية للمدينة، وتغيير جغرافيتها السكانية، وهدم وتعطيل كل بقعة شريفة واثر خالد للمسلمين، وذلك ابتداء من المسجد الاقصى الذي يوجه اليه النصيب الاكبر من المكر والاذى، الى مسجد قبة الصخرة الذي جرت عدة محاولات لتدنيسه، الى الحرم القدسي بما فيه من حائط البراق الذي استولى اليهود على قسم كبير منه، الى حي المغاربة الذي هدم بالكامل، الى حفر الانفاق تحت اساس المقدسات الاسلامية، الى طمس معالم لمناطق اجداث بعض الصحابة والتابعين، الى تحويل المدارس الوقفية القديمة الى مراكز للسلطة الاسرائيلية، الى اجلاء سكان القدس والاستيلاء على بيوتهم، الى العمل على تفريغ القدس من جميع المؤسسات الاسلامية الخيرية والتعليمية، الى توسيع رقعة القدس الكبرى لتضم الاراضي التي سكانها اليهود، مما يجعل القدس مدينة ذات اغلبية يهودية واقلية مسلمة لا صوت لها ولا حقوق بعد ان فقدت النصير والظهير.
نعم.. في خضم هذا الواقع المرير والظرف الخطير يأتي حديثنا عن القدس الاسلامية عروس المدن ودرة عقدها وتاج هامتها.. مدينة السلام والاسلام.. مدينة الماضي والحاضر.. مدينة التضحيات والذكريات.. مدينة عمر وصلاح الدين واشبالهما.
القدس للمسلمين.. لانهم هم الذين بذلوا ارواحهم رخيصة حتى اخرجوا منها الروم ثم الصليبيين ثم التتار، ودفعوا عنها غائلة وشرور ومكائد تسع حملات اوروبية جرارة استترت وراء الصليب، وزعمت انها تريد حماية المسيحيين.
القدس للمسلمين، لانها أرض وقفية للمسلمين جميعا لا يحق بيعها ولا التنازل عنها ولا التفريط في شبر منها، لا لليهود ولا لغيرهم، ليس ذلك لاحد ابدا ولا في مقدروه.