"الدين".. لجلد الأزواج!
يأمرنا الإسلام بحسن الخلق، ويعده واجهة لتعاملات المتدين الحق، ودليلا على إيمانه ومعرفته الحقيقية بالدين. وبدلا من أن يتقرب المسلم إلى الله بالإحسان إلى الناس في المعاملة؛ نجد بعض المتدينين في واد آخر، بعيدا كل البعد عن الدين.
ففي "بعض" أسر الملتزمين، يستغل بعض الأزواج "الدين" في التسلط على زوجاتهم، وتستغل بعض الزوجات تدينها في التهرب من واجباتها الزوجية، ولكن الحالات التي وجدناها في تحقيقنا كانت "ذكورية"، نظرا لشيوع الفهم الخاطئ بأن الإسلام يعطي الرجل حقوقا، ولا يفرض عليه في المقابل التزامات تجاه شريكة حياته.
وطفت على سطح مجتمع الملتزمين بعض الظواهر الاجتماعية المثيرة للنقاش، منها تناقض الملتزم داخل وخارج بيته، فهناك بعض المسلمين ممن يبدو من ظاهرهم التدين والالتزام، تجده متهاونا في معاملته لزوجته، يعاملها كجارية اشتراها من سوق العبيد؛ وكأننا نعيش في عصر الجاهلية، فيأمرها وينهاها ولا يقبل منها اعتراضا، ولا يسمع لها رأيا، ظنا منه أن الدين أوجب عليها الطاعة العمياء لزوجها، ويلوي أعناق النصوص الشرعية ليدلل على فهمه المعتل.
ينسون أنفسهم
تجده معها عابس الوجه، يأمرها بالطاعة دون معارضة وينقصها حقها، ويأمر غيره بالبشاشة، فهو كمن قال الله عنهم: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم"، ويبررون سلوكياتهم بتأويلات مشوهة للقرآن والسنة.
يستخدمون الدين في جلد زوجاتهم، بإسنادهم هذه المعاملة لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، دون النظر إلى المعنى المقصود من الآية أو الحديث، والسؤال الذي تردده الزوجات الآن: هل هؤلاء متدينون بالفعل؟ أم أن تدينهم ستار يختبئون وراءه؟.. حتى تحسرت إحداهن شاكية إلينا ما تعانيه، قائلة: "هل ذنبي أني ارتبطت برجل متدين؟".
سؤال صعب.. والإجابة عليه لن نستطع تقديمها إلا باستعراض عدد من التجارب داخل بيوت "بعض الملتزمين" عبر السطور الباكية التالية:
لباس تقوى مزيف
لجأت "ع. ف" إلى محكمة الأسرة بالرباط طالبة الخلع، بعدما كلت من معاشرة ذلك الرجل، سردت لنا قصتها، قالت: "زوجي معروف بين جيراننا ومعارفنا بالتدين والاستقامة والطيبة، والحرص على أداء الفرائض والنوافل، وأداء الصلوات على وقتها مع الجماعة الأولى في المسجد.. لكن ما أن يغلق علينا باب الدار؛ حتى تنقلب طباعه ليصبح مقطب الجبين، شرسا بلا رحمة، يقتصر كلامه على الأوامر والنواهي، وأحيانا لا يتحدث بلسانه، بل تمتد يداه بالصفع.
وعندما يتدخل الجيران فور سماع صراخي؛ يخرج إليهم منتفخ الأوداج ومحمر العينين صائحا: إنها زوجتي.. وأنا أصلح أخطاءها، وقد أجاز الشرع ضرب الزوجة إذا عصت زوجها. ويستدل في حديثه بقال الله وقال الرسول، ولما فاض بي الكيل طلبت الطلاق فرفض، فلم يعد أمامي إلا الخلع"!
أما "و. ي" من المغرب فزوجها يرتدي لباس تقوى مزيفا، ورغم أنه معروف بالالتزام والتقوى؛ فإنه يخلعه عند دخول البيت، فيمنعها من زيارة أمها؛ لأنه لا يستسيغ هذه الأم!.
وتشير الزوجة في حديث دامع إلينا أنها كلما فتحت فمها للمطالبة بحقها في رؤية أمها؛ قال لها: "الزوج أحق الناس على المرأة" وفقا لفهمه للحديث الشريف: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ولا تؤدي المرأة حق زوجها حتى لو سألها نفسها على قتب لأعطته".
والويل لها إن ناقشته في مضمون الحديث، فهنا تكون عاصية في رأيه، لا تطبق أوامر الله ورسوله، وهنا يبدأ في صب جام غضبه بيده عليها بدعوى أنه يقوم اعوجاجها.
ناقصات عقل ودين!
صدمت "أ. م" -فلسطينية- بعد الزواج، لأن الزوج المتدين الذي طالما حلمت به، يذلها بسوط الدين، ويحاول إقناعها بأن قطعها لرحمها بر له، وأنها لن تحاسب على ذلك!.
وتتوجع وهي تقول: "كانت مصيبتي ستهون لو أن زوجي لم يكن متدينا، لأني عندما أجادله يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تجعلني أصمت أمامه وأكظم غيظي، لكن لا أدرى إلى متى سأتحمل".
ظنت "إ. أ" -فلسطينية أيضا- أنها أحسنت الاختيار، وأن الشكل الخارجي للتدين دال، وأنها فازت برجلٍ متدين سيأخذ بيدها نحو طريق الهداية والنور. لكن بعد الزواج بدأت تتكشف لها حقيقة هذا المتدين، تقول: "كلما أبديت رأيا أو مشورة جاءني صوت زوجي حازما صارما: المرأة ناقصة عقل ودين، ولو حاولت أن أشرح له هذا الحديث، والسياق الذي قيل فيه؛ هب غاضبا من مكانه، واتهمني بالجهل".
وأضافت: "نحن نعيش هذه الأيام ظروفا قاسية وأوضاعا معيشية صعبة، بسبب الاحتلال، فأخبرت زوجي أنني أريد التوجه إلى العمل لتحمل أعباء المنزل معه فقامت الدنيا ولم تقعد، وبدأ في سرد الأحاديث والآيات التي تأمر المرأة بالمكوث في بيتها، وكم أتألم حين تصارحني أختي أنها لا تريد الزواج برجلٍ متدين كي لا يكون مصيرها مثلي".
زوجات مقصرات
ولا يقتصر استغلال الدين كسوط على الأزواج فقط، ولكن بعض الأزواج عانوا من هذا الفهم الخاطئ للدين لدى زوجاتهم، ويتضح ذلك من تجربة "ف.ا" -زوج مصري- تحفظ زوجته القرآن الكريم، وعددا معتبرا من الأحاديث النبوية، وتحرص بشغف على متابعة الدروس في المسجد، وترتدي الزي الإسلامي الملتزم، بل وفي بعض الأحيان تقوم بإلقاء الدروس الدينية، وترد على استشارات وفتاوى النساء!.
ورغم كل هذا لم يؤثر عليها هذا التدين الشكلي في التقريب بينها وبين زوجها، الذي تعد طاعته مدخلا للجنة، إذ اشتكى لنا من أنها بذيئة اللسان معه ومع أهله وأولاده، ولا تهتم بمظهرها إطلاقا داخل البيت.
فهي مهملة لبيتها وزوجها وأولادها بحجة الانشغال بحضور الدروس في المسجد، وعندما يطالبها زوجها بحقه الشرعي تتمنع، وتتحجج بأنها تستعد لقيام الليل، أو أنها مجهدة من الحركة في المساجد.
وإذا ناقشها ترد متبجحة: "لا تكن رجلا شهوانيا، دعك من هذه الأمور التافهة، فأنا أعلم منك بأمور الدين، اتق الله وساعدني على أن أطيع الله، ولا تكن من الذين يقفون عائقا في طريق الطاعات"!!
المشير والخفير
أعطى الإسلامُ المرأةَ حقوقا، كما فرض عليها واجبات.. يوضح د.أحمد ربيع -الأستاذ بكلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر- أنه ليس في الإسلام ما ينص على أن الرجل في البيت برتبة "مشير"، والمرأة برتبة "خفير" أو العكس.
ويضيف د.ربيع: "الحقوق الزوجية في الإسلام متكافئة بين الزوجين، يزيد فيها حق للزوج وهو القوامة؛ غير أن القوامة تعني في المفهوم الصحيح للإسلام تحمل مسئولية الكفالة المادية والمعنوية لا التسلط أو التجبر أو الاستبداد.
وينبغي أن تظلل الشورى على العلاقة بين الزوجين؛ حتى في لحظات الغضب والخلاف، يقول تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...}".
وأشار د.ربيع إلى أن الإسلام "هندس" طريق الزوجية بخطين متوازيين من اللآلئ والرياحين؛ هما الحقوق والواجبات. فكل حق لطرف يقابله واجب عليه، وهو ما يضمن أن تحيا الأسرة المسلمة في تناغم.
وشدد د.ربيع على عدم مشروعية استخدام الدين كأفيون لتخدير طرف في العلاقة الزوجية والضغط عليه. ونفى صفة متدين عن كل من يقوم بمثل هذه الأفعال؛ فمن ليس له أخلاق، ولا يعامل شريك حياته باحترام ليس بمتدين.
ويرجع الشيخ إبراهيم الزيتوني -داعية وباحث مغربي في الدراسات الإسلامية- سر لجوء بعض المتدينين إلى استغلال الدين، وجعله شماعة يعلقون عليها إساءتهم لزوجاتهم إلى "الجهل بتعاليم الدين، فالذين يعرضون زوجاتهم للضرب والعنف بزعم الطاعة هم مخطئون، ولو كانوا يفقهون لاتبعوا أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتصرفاته العظيمة مع أزواجه".
ويشير الزيتوني إلى أنهم "ينسون أو يتناسون صحيح الأحاديث النبوية مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- {إنما النساء شقائق الرجال} (صححه الألباني)، ويعتمدون في تبريراتهم على أحاديث ثبت ضعفها مثل: {لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته}"!
الإحسان عبادة
وتتفق د.آمنة نصير -أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر- مع الآراء السابقة، فهي ترفض تماما ابتزاز أحد الزوجين للآخر باسم الدين، وتنكر على أي زوج أو زوجة ملتزمة التستر وراء ما يظنه طاعة من أجل الهروب من المسئوليات الاجتماعية المقدسة تجاه الطرف الآخر، أو نيل مكاسب من الطرف الآخر ليست من حقه، أو طي أعناق الآيات القرآنية والسنة المحمدية من أجل إذلال الطرف الآخر.
وترى د.آمنة أن الالتزام أصبح كلمة يتشدق بها الكثيرون دون فهم. فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعبد الناس، غير أنه كان في نفس الوقت خيرنا لأهله، فهو القائل -صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
والسلف الصالح ضربوا لنا أروع الأمثلة في الجمع بين الطاعة لله سبحانه وتعالى، والقيام بالمسئوليات الاجتماعية اليومية على أكمل وجه. بل إنهم من واقع فهمهم الصحيح للدين؛ كانوا يؤدون واجباتهم الأسرية بنفس روح العبادة؛ لأنهم نظروا إليها على أنها عبادة لله. فإذا كان قيام الليل نافلة للمرأة؛ فإن رعايتها لأبنائها وزوجها فرض واجب، وإن لم تقم به فهي آثمة.
وعن أثر مثل هذه الأفعال التي يقوم بها أحد طرفي العلاقة الزوجية على الآخر، وعلى الأسرة بأكملها، وعلى صورة المتدين على وجه الخصوص؛ يبين د.وليد شبير -أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الإسلامية بغزة- أن تداعيات وخطورة مثل هذه الأفعال على استقرار نفسية الطرف الآخر خطيرة جدا.
فالزوجة -مثلا- لا يمكنها أن تحتمل مطالبة زوجها لها بألا تذهب لزيارة أهلها وأقاربها تحت بند "طاعة الزوج". والزوج لا يستطيع أن يتحمل تقصير الزوجة في حقه وحق بيته؛ بمبرر أنها مشغولة بطاعة الله. وهذا الضغط قد يولد المشاحنات والتوتر فيغيب الهدوء عن البيت، ويموت الدفء الإيماني وربما يحدث ما لا تُحمد عقباه.
ويؤكد د.شبير أن هذه الأفعال تشوه صورة المتدين، فإن حكى أحد الطرفين عنها للمحيطين فسيرسم المجتمع صورة مشوهة للمتدين، تظهره على أنه إنسان ظالم لا يُحسن ولا يُجيد التعامل، بما قد يؤثر على اختيار الشباب والفتيات لاشتراط التدين في شريك الحياة، والتحفز ضد المتدينين؛ نفورا من هذه التجارب السلبية؛ ومن هنا تحدث الطامة الكبرى في المجتمع.
ويرد د.سيد عبد العزيز السيلي -أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر، والأستاذ السابق بالجامعة الأمريكية المفتوحة بواشنطن- أصل المعاملة بين الزوجين إلى المودة والرحمة والسكينة كي تكتمل الحياة الزوجية امتثالا لقولة تعالي: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة وَرَحْمَة إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
ويضيف السيلي: "لا بد أن نعي أن الطاعة للزوج لا تكون إلا في حدود طاعة الله، وبقدر المستطاع، فـ(لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..) (البقرة – 286)، والإنسان السوي يجب ألا يأمر زوجته بما لا تطيق، ولا بما يتعسر عليها تنفيذه، فالخلافات تنتج دائما حينما يتعسف الزوج في طلب فيتعسر على الزوجة تنفيذه.
ويتجاوز الله -جل وعلا- عن الإنسان ما لم يستطع، لذا أمرنا بالصلاة واقفين، فإن لم نستطع فجالسين، وهكذا، ويأمرنا الله العفو الغفور بالتسامح، وكلما كان المسلم على درجة عالية من الإيمان وتحلى بالخلاق الحسنة؛ كان ذلك مدعاة لترابط وتماسك الأسرة".