المستقبل اللبنانية- قيام رئيس حكومة "حماس" المقالة في قطاع غزة اسماعيل هنية يوم امس بافتتاح مقر لما يسمى "جهاز الأمن والحماية" التابع لوزارة داخلية حكومته، في مقر الرئاسة "المنتدى" غرب مدينة غزة، له معنى واحد لا يقبل أي تأويل آخر، ان "حماس" بدأت مبكراً معركة الاستيلاء على مؤسسة ومنصب رئاسة السلطة الفلسطينية، مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس محمود عباس في العاشر من كانون الثاني (يناير) من العام المقبل.
فعلى الرغم من ان ميليشيات "حماس" لم تستثن مقر الرئاسة من عمليات الاستيلاء على مؤسسات السلطة ابان تنفيذ انقلابها في حزيران (يونيو) من العام الماضي، وقام عناصر "كتائب القسام" والقوة التنفيذية بأخذ الصور التذكارية على مقعد الرئيس محمود عباس وامام عدسات مصوري وسائل الاعلام، وهو ما اعتبره آنذاك عدد من قادة "حماس" مجرد تجاوزات لعناصر غير منضبطة بسبب ما اثارته من ردود فعل مستنكرة وساخطة، خصوصا ان هذا النوع من الانتهاكات شمل منزل عباس ودارة الرئيس الراحل ياسر عرفات وتم العبث بمحتوياتهما، تعاملت حركة "حماس" بعد ذلك بقدر كبير من الحذر والحساسية، وامتنعت عن استخدام مقر الرئاسة باعتبار ان الحركة المذكورة ما زالت تعترف بشرعية الرئيس المنتخب، حتى وان تمردت على سلطته، وضربت بعرض الحائط جميع قراراته ومراسيمه وفي مقدمها اقالة حكومة هنية، واقامت سلطة الامر الواقع الخاصة بها على قطاع غزة بقوة الانقلاب.
لكن قيام هنية بنفسه بافتتاح مقر لجهاز الأمن والحماية في مقر الرئاسة يمكن اعتباره واحداً من اهم الاجراءات، ان لم يكن الاجراء الاهم بعد الانقلاب نفسه في اطار استكمال الحركة الاسلامية لمشروع احكام سيطرتها على مختلف مكونات النظام السياسي للسلطة الفلسطينية.
واللافت ان هذه الخطوة تأتي في ظل عدة تطورات تؤشر الى السلوك والموقف السياسي الذي ستسلكه "حماس" منذ الان وحتى حلول نهاية ولاية الرئيس عباس بعد 6 اشهر.
واول هذه التطورات، الدعوة التي اطلقها عباس الى الحوار مطلع الشهر الماضي، بعدما اسقط شرطه المسبق بتراجع "حماس" عن انقلابها وعودة الوضع الى ما كان عليه. هذه الدعوة التي ما زالت تدور في الهواء، ولم ترد عليها "حماس" رسمياً حتى الان، واكتفت بتصريحات الترحيب العامة علناً، فيما خاض رئيس مكتبها السياسي حملة تشهير وتشكيك بالنوايا المضمرة للدعوة وبصاحبها، من طراز انها قد تكون مقدمة وتغطية لاجتياح اسرائيلي على قطاع غزة، في حين كان خالد مشعل ذاته يطفئ النار تحت طبخة التهدئة في غزة بعد ان نضجت، ناهيك عن التشكيك في انها قد تكون توطئة لاعلان اتفاق فلسطيني ـ اسرائيلي يقتضي كسب ود "حماس" وشراء سكوتها.
على هذا الوجه، يمكن قراءة ما فعله هنية امس باعتباره اجابة صريحة من "حماس" على دعوة عباس.
انه جواب يقول بالفم الملآن ان المطلوب رحيل عباس وليس الحوار معه، لان من يقدم على مثل هذه الخطوة يعرف جيداً ما تحمله من استفزاز، وما تستدعيه من ردود فعل ساخطة من عباس وحركة "فتح" والسلطة، سيكون من شأنها مضاعفة المسافة بين الطرفين في حين امل الفلسطينيون ان تفتح دعوة عباس الابواب على امكان انهاء حالة الانقسام، واعادة توحيد شطري الاراضي الفلسطينية.
وثانياً، تأتي هذه الخطوة بعيد التوصل الى اتفاق على التهدئة بين "حماس" واسرائيل، وما تبعه من فك ولو جزئي للحصار وفتح المعابر، الامر الذي ولد لدى الحركة المذكورة شعوراً بالامان والاطمئنان على سلطتها في غزة، وتجاوزت قطوع التصفية والسحق في حال وقوع اجتياح اسرائيلي، أي انها تحررت من ضغط الحصار والعنف الاسرائيلي، واصبح ترسيخ سلطتها في ظل حالة من الهدوء والاستقرار يتصدر جدول اعمالها، حتى ولو ادى ذلك الى ترسيخ انقسام السلطة، وانشطار الاراضي الفلسطينية.
وثالثا، فإن خطوة "حماس" ورئيس حكومتها المقالة تعتبر ردا عمليا واستباقيا على السجال الذي بدأ حول قانونية المدى الزمني لولاية الرئيس عباس، ورسالة واضحة مفادها ان "حماس" لن تعترف بشرعية عباس بعد 9 كانون الثاني (يناير) المقبل، وانها تتهيأ فعلياً لخوض معركة الرئاسة حتى ولو كان ذلك من خارج قياداتها، ومن خلال مرشح مستقل مقرب منها ومحسوب عليها، وخطوة هنية هي رد على الفتوى القانونية التي اعلنها رئيس ديوان الفتوى والتشريع عبد الكريم ابو صلاح قبل عدة ايام حيث قال في بيان صدر عنه "ان الانتخابات الرئاسية المقبلة يجب ان تكون متزامنة مع الانتخابات التشريعية وفقاً لأحكام القانون، لان الفترة الزمنية التي سبقت الانتخابات التشريعية هي فترة مكملة للولاية الرئاسية السابقة"، ما يعني ان ولاية عباس ستمتد حتى مطلع عام 2010، أي مع حلول موعد الانتخابات التشريعية.
رابعاً، ثمة تطورات مهمة على الصعيد الاقليمي، وتخص اساساً المعسكر الذي تنتظم فيه حركة "حماس"، ومنها المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل ابيب، وانهاء صفقة تبادل الاسرى بين "حزب الله" واسرائيل، واللغة التصالحية التي اتسم بها خطاب الامين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله اول من امس حيال الوضع الداخلي، ما يصلح كأداة قياس تؤشر الى بوصلة طهران التي تتجه الى تبريد حدة المواجهة بينها وبين واشنطن، أي ان "حماس" تشعر خصوصا بعد ان نفدت حصتها من عملية التبريد الاقليمية من خلال اتفاق التهدئة، وهي في طريقها الى انهاء صفقة الجندي الاسرائيلي شليط، بأن عنقها نجا من مقصلة المواجهة الاقليمية.
بالاضافة الى ذلك، فان الاشهر المتبقية للادارة الاميركية من جهة، وحسم مصير رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود اولمرت المتهم بالفساد، تعتبر فسحة من الوقت المستقطع، يبدو ان طهران ودمشق وحليفهما الفلسطيني "حماس" واللبناني "حزب الله " قرروا شراءه الى ان يتبين الخيط الابيض من الاسود في واشنطن وتل ابيب، وتجاوز قطوع ما تبقى من وقت حتى نهاية العام، بأقل الاثمان، بدلا من المواجهة وما يمكن ان تجره من ويلات وتداعيات يصعب تطويقها.
وباختصار، يمكن القول ان الحرب على آخر مؤسسات السلطة الفلسطينية الشرعية افتتحت، وما لم يسارع طرفا الخلاف لايجاد مخارج سياسية ترفع من شأن المصلحة الوطنية، فإن الاشهر القليلة المقبلة ستشهد انهيار اخر المؤسسات الشرعية في الاراضي الفلسطينية.
ولا بديل لاسوأ الاحتمالات سوى تفعيل مبادرات المصالحة والوفاق لتتوافر شبكة امان سياسي ويتوافر نصاب قانوني ليس لعباس ومنصبه فقط، بل لجدارة الفلسطينيين في ان يكون لهم وطن وسلطة ونظام سياسي. ولعل اجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة هو المخرج الملائم، ان لم يكن الوحيد بديلاً من السقوط في هاوية الانقسام.